فصل: باب: إقرارِ الوَارثِ لِلوَارثِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: إقرارِ الوَارثِ لِلوَارثِ:

4463- مضمون الباب التعرض لإثبات، الأنساب، وما يتعلق بها. ومعظم القولِ في ذلك مذكورٌ في باب القافة، من كتاب الدعاوى، ولكنا نذكر خَاصيّة الباب. وقد نُحْوَج إلى ذكر ما سيعودُ في كتاب الدّعاوى.
فنقول: النسب يثبت بالبينة تارةً، وبالإقرار أخرى، فأمَّا البينة، فإذا شهد رجلان عدلان في مجهول النسب بأنّه ابنُ هذا المدّعي، وكان يولد مثله لمثله، يثبت النسب، ولا يثبت برجلٍ وامرأتين.
فأمّا الإقرار، فنتكلم في إقرار الإنسان على نفسه، ثم نوضح إقراره على غيره.
فأمّا إذا أقر على نفسه فاستلحق نسباً وقال: هذا ابني، نُظر: فإن كان المستلحقُ معروفَ النسب لغير المستلحِق، لم يلحقه النسب بالدعوى المجردة. وكذلك إذا كان ذلك المستلحَق لا يولد مثله لمثل المستلحِق، فالاستلحاق باطل وإقرار المستلحِق مردود.
وإن استلحق نسبَ مجهولٍ يولد مثله لمثله، وقال: "هذا ابني"، لا يخلو إمَّا أن يكون صغيراً، أو بالغاً. فإن كان بالغاً، فوافق المستلحَقُ، ثبت النسب. وإن أنكر وقال: لستُ ابنَه، فالقول قوله مع يمينه.
وكذلك لو ادّعى رجل على رجلٍ، وقال: "أنت أبي"، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه.
ولو كان المستلحَق صغيراً، قُبل قول المستلحِق، ونفذ الحكمُ به في الحال، حتى لو مات الصغير في صغرِه، ورثه المستلحِق، ولو مات المستلحِق، ورثه الصغير.
فإن بلغ وادّعى أنه ليس بابن له، ففي قبول قوله وجهان:
أحدهما: لا يقبل، لنفوذ الحكم بالنسب في الصغر، فنستديم الحكمَ المتقدم.
والثاني: يقبل؛ لأنه لم يكن وقت الاستلحاق ذا قولٍ، وقد صار من أهل القول الآن، فيجب قبولُ قوله.
والذي يناظر ذلك أن من ادّعى على بالغٍ أنه رقيقُه، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ فإن كان صغيراً، حكم له بالملك فيه، فإذا بلغ هل يُقبل قوله: إني حر الأصل؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يقبل؛ لتقدم الحكم بالرّق، فيجب استدامة الحكم السابق، والثاني: يقبل قوله مع يمينه، لأنه صار من أهل القول. وعلى الوجه الأول تُقبل دعواه، ولكن القول قولُ مولاه، مع يمينه.
وهذه المسائل تلتفت إلى أنّ اللقيط المحكومَ له بالإسلام بحكم الدّار إذا بلغ، وأعرب عن نفسه بالكفر، فنجعله مرتداً، أم يقدر كافراً أصلياً؟ قولان، سيأتي ذكرهما، وتوجيههما، وتفريعهما في كتاب اللقيط، إن شاء الله تعالى.
ولو مات صغيرٌ مجهولُ النسب، فاستلحقه إنسان، لحقه النسب، فإن طريق الاستلحاق لا يختلف بالحياة والموت، ولا التفات إلى قول من يقول: إنه متهم، وغرضه إحرازُ ميراثه؛ فإن مثل هذه التّهمة قد تتحقق في حال الحياة، إذا كان الصغير ذا ثروة ويسار، وكان مستلحقه فقيراً.
ولو كان الميت المجهول الحال بالغاً، فاستلحقه، ففي المسألة وجهان، ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أن النسب يلحق قياساً على الصغير الميت. والوجه الثاني- أنه لا يلحق نسبه، وهو الذي اختاره القاضي، ووجهه أنه يُنسب مستلحقه إلى أمرٍ ظاهرٍ يوجب رد قوله، وهو أن يقال له: "لَمْ تستلحقه حياً، مخافة أن ينكر، فيكونَ القولُ قولَه، وأخرت الاستلحاق إلى ما بعد الممات، حتى ينفذ من غير مراده". وهذا المعنى لا يتحقق في استلحاق الصغير الميّت. وهذا وإن كان مُخيلاً، فمنتهاه التعلق بالتهمة. وحق هذه المسائل أن لا تُبنى تفاصيلها على التهم.
ولو استلحق نسبَ مجنون، وقال: إنه ابني. فإن بلغ مجنوناً بعد الاستلحاق، كان كاستلحاق الصغير، وإن بلغ عاقلاً، ثم جُن، فقد تَردد الأئمة في استلحاقه.
وهذا بعينه هو الاختلافُ الذي ذكرناه في استلحاق الميت البالغ؛ فإنه سبق له حالُ استقلال، كان يفرض فيه إنكارُه لو استلحِق، فطريان الجنون كطريان الموت.
ويتعلق بالاستلحاق أصول وقواعد سيأتي ذكرها، إن شاء الله تعالى. في موضعها. وإنما الذي ذكرناه التوطئةُ للتقسيم.
4464- والغرض القسم الثاني.
وهو إذا أقر الإنسان بنسبِ منسوب إلى غيره، وكان المقر وارثَ ذلك المنسوب إليه، وهو ميت، فلا يخلو المقِر إمّا أن يكون حائزاً لتركته، أو كان لا يحوزها كلَّها، فإن كان لا يحوز التركة: مثل أن يموت رجل ويخلف ابنين، فيقرَّ أحدُهما بابن ثالث للمتوفى، وأنكر الثاني وكذبه، أو خلف ثلاثةً من البنين في ظاهر الحال، فأقر اثنان وكذَّب الثالث. فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن النسب لا يثبت بإقرار من لا يحوز التركة، ثم كما لا يثبت النسب، لا يثبت الإرث، فليس لذلك المقَر له أن يطالب المقر بشيء من التركة، ويقولَ: قد أقررتَ لي بالنسب واستحقاق الإرث، فأشركني فيما تثبت يدُك عليه من التركة؛ فإنك مؤاخذ في حق نفسك بإقرارك. هذا مذهبُ الشافعي.
وقال أبو حنيفة في المسألة الثانية: إنه يثبت النسب ويرث لوجود الإقرار؛ إذ هو
شرطٌ عنده، وذهب في المسألة الأولى، وهو أن يُقِرَّ أحدُ الاثنين وينكر الثاني إلى أنه يثبت للمقَر له قسط من الميراث، يُطالب به المقِر. وذهب المتقدّمون من أصحاب أبي حنيفة إلى أن النسب لا يثبت، ويثبت استحقاق المال. وذهب المتأخرون إلى أن النسب يثبت في خبطٍ لهم، لست له الآن ذاكراً. وإنما أشرنا إلى مذهب أبي حنيفة لغرضٍ لنا سنجريه في أثناء الكلام، إن شاء الله عز وجلّ.
ثم الذي اعتمده أثمة المذهب في الذب عن المذهب: أن الميراث لا يستحق فيما نحن فيه إلا بالنسب، والنسب غير ثابت؛ فإن المعترف به ليس مستلحِقاً في حق نفسه، وإنما يُلحِق النسبَ بغيره، وليس حالاًّ محله على معنى حيازة ما خلفه، فإذا لم يثبت النسب وهو أصل الميراث، لم يثبت الفرع الذي لا يتخيل ثبوته دون ثبوت الأصل. هذا معتمد قدماء المذهب.
ثم نوجّه عليه أسئلةً من الخصم تتعلق بمسائل مذهبيةٍ. و لم أذكر عمدة المذهب إلا لأفض عليها الأسئلة، وأذكر المسائل مجموعة.
4465- فإن قيل: ما ذكره هؤلاء ينقضه ما لو قال المالك: بعت منك هذا الشقص، فأنكر الشراء، فللشفيع الشفعة، وأصل الشفعة الشراء؛ والشفعة في حكم الفرع له، ففيم ثبت الفرع دون ثبوت أصله؟ قلنا: هذا مختلف فيه، سنستقصيه في كتاب الشفعة.
فإن قيل: إذا قال الرجل: لفلان على فلان ألفُ درهم، وأنا به ضمين. فأنكر من قدّره أصيلاً أصلَ الدين، صدقه الشرع مع يمينه. فالمقر بالضّمان مطالَبٌ، وإن كان فرعاً لأصلٍ لم يثبت. وقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى أن الضّمان لا يثبت بناء على ما ذكرناه من انتفاء الفرع عند انتفاء الأصل. والأصح الذي ذهب إليه الجمهورُ ثبوتُ المالِ على المعترف بالضّمان. وسنذكر بعد إيرادِ المسائل ما فيه أدنى تخيل في إفادة الفصل بين مسائل الإلزام، وبين مسألة النسب والميراث.
4466- ومما أُلزمناه على ما رأيناه عمدةَ المذهب تحريمُ المناكحة؛ فإن أحد الابْنين إذا اعترف بأن هذه بنت أبينا، وأنكر الثاني، فيحرم على المقِر مناكحةُ تلك المرأة. قال القاضي: إن كانت مجهولة النسب، ثبتت الحرمة، وإن كانت مشهورة النسب لغير هذا المتوفى الذي ينسبها المقِر إليه ففي ثبوت الحرمة وجهان. وذكْر الخلاف في هذا عظيم، لا خلاص فيه مع تسليم الحرمة، في مجهولة النسب.
وإذا اعترف الزوج بأنه خالع امرأته على مالٍ، فأنكرت المرأة، وانتفى المال بيمينها، ثبتت البينونة بإقرار الزوج، وإن كانت فرعاً لثبوت المال.
وإذا خلف المتوفى مملوكاً في ظاهر الحال والظن، فاعترف أحد الابنين بكونه ابناً للمتوفى، ففي نفوذ العتق فيه بحُكم إقرار المقر وجهان، وسبب الخلاف سلطانُ العتق.
وإذا ادّعت المرأة أنها زوجةُ فلانٍ، فقال الرَّجل: ما نكحتُها قط، ففي حرمة النكاح عليها وجهان، حتى يجوزَ لها في وجه أن تنكح بسبب إنكار الزوج أصلَ النكاحِ.
وإذا قالت المرأة: أصابني زوجي قبل أن طلقني، وأنكر الزوج الإصابة، ففي وجوب العدة عليها وجهان.
فهذه مسائلُ مذهبيةٌ أرَدْنا نقلَ قول الأصحاب فيها. فإن أردنا دفعها على التسليم عن مسألة النّسب والميراث، فلا ينقدح إلاّ وجهان:
أحدهما: أَنَّ مقصود الإقرار النسبُ في مسألة الخلاف، والميراثُ متفرعٌ وهو مسكوت عنه. والأحكام التي أثبتناها في المسائل مقصودة في أنفسها، كالمال على الضَّامن، وحرمة النكاح. والدليل عليه أن المقَر له بالنسب لو أنكر، لم يستحق الميراث. ولو أنكرت التي أقر بنسبها أحد الورثة، فالتحريم قائم، و هذا مسلك ضعيف لا استقلال فيه.
والثاني: أنّ النسب، وإن قُدّر ثبوته، فلا يجبُ القضاء باقتضائه الميراثَ؛ فإنا نجدُ أنساباً لا يتعلق بها استحقاق الميراث، كنسب الرقيق إذا لم تكن مقتضيةً موالاة، ونسب المخالفِ في الدين، فلا يمتنع أن يقال: الميراث إنما يثبت بنسب يثبت ظاهراً، ولا حكم لما يبطن منها.
وكل هذا تكَلُّفٌ. ومن لم يعترف بإشكال هذه المسألة، فليس من التحقيق على نصيبٍ.
وسنذكر بعد طرد ظاهر المذهب، وعَدّ ما يتعلق به من المسائل خلافاًً من بعض الأصحاب في أصل المسألة، إن شاء الله تعالى.
4467- فنعود إلى استتمام المسائل بناء على ما هو مذهبُ الشافعي.
فلو أقر أحد الابنين لامرأةٍ بأنها كانت زوجةً لأبيه، وأنكر الثاني، ففي المسألة وجهان: أظهرهما- أنها لا ترث؛ لأن إرثها فرعٌ لثبوت أصل الزوجيّة في الحياة، وذلك لم يثبت بقول أحد الابنين. والوجه الثاني- أنها ترث؛ لأن الإرث لا يثبت إلا بعد زوال الزوجيّة، إذ النكاح ينتهي بالموت، ثم يثبت الإرث.
وهذا كلام ركيك تَوافق نقلةُ المذهب على ذكره.
4468- ومن المسائل أنه إذا أقر أحد الابنين بثالثٍ، وأنكر الثاني، ثم مات المنكر المكذِّبُ، وخلف ابناً، فأقر ابنه بنسب ذلك المقَر به، وساعد عمه في الإقرار، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن نسب ذلك الإنسان يثبت الآن؛ إذ قد اجتمع على الإقرار به من يستغرق الميراثَ. وقال القاضي: هذا يبتني على مسألةٍ، وهي أن من نفى نسباً، وفَرْضَ الثبوت باللعان، ثم مات، فاستلحق ابنُه المستغرقُ لميراثه مع تقدير النفي نسبَ ذلك المنفي، ففي لحوق النسب والحالة هذه وجهان:
أحدهما: يلحق، ويكون استلحاق الوارث كاستلحاق الملاعن. والوجه الثاني- لا يثبت نسبُ ذلك المنفي، فإنّ في استلحاقه تكذيبَ الملاعن، وقد صدقه الشرع، إذ لاعن. فإذا ثبت هذا الخلاف، قال القاضي بعده: إذا اعترف أحد الابْنين، وكذّب الثّاني، ومات المكذّب على التكذيب، وخلف ابناً، فأقر كما أقر عمُّه، فهذا يجوز أن يخرّج على الخلاف الذي ذكرناه في استلحاق المنفي باللعان، بعد موت الملاعن؛ فإنّ تكذيب أحدِ الاثنين محكومٌ به، كما أن نفي النسب محكوم به. وهذا الذي ذكره حسنٌ. وفيه احتمالٌ؛ من جهة أن من نفاه الأب باللعان، ففي إلحاقه بعد موته إلحاقُ عارٍ بنسبه. وهذا لا يتحقق في موت المكذب من الابنين.
4469- ومن المسائل إذا أقرّ أحد الابنين، وكذّب الثاني، ثم مات المكذّب، ولم يخلف إلا أخاه المقِر، فهل يحكم الآن بثبوت نسب ذلك المقر به بما سبق من الإقرار؟ في المسألة وجهان:
أحدهما: يثبت؛ لأن المكذب خرج من البين، وصار المقر مستغرقاً.
والثاني: لا يثبت؛ لأن تكذيب المكذب، ثبت، فلا يبطل أثره. ثم هذا القائل لا يفصل بين أن يجدد الابن الباقي إقراراً، وبين ألاّ يجدّد؛ فإن التعويل على أن التكذيب الثابت لا يقطعُ أثره بعد ثبوته.
4470- ولو مات عن ابنين، فمات أحدهما، ثم أقر الآخر بابن لأبيه، قبل، وثبت النسبُ؛ لأنه لما أقر كان مُستغرقاً لميراثِ الأول والثاني، فهو خليفتهما، ولم يتقدم من الأخ الذي مات تكذيبٌ. ولو مات عن ابنين صغيرٍ وكبير، فأقر الكبير بنسبٍ، فقد أطلق بعض المحققين القول بأنا نحكم بثبوت النسب في الحال، ثم فرّع عليه. وقال: لو مات أحدُهما، ورثه الثاني، فلو بلغ ذلك الصبيُّ، ولم يكذب الكبيرَ، فذاك. وإن كذّبه، بان أنه لم يكن ثابتاً بإقراره. وهذا الكلام متناقضٌ؛ فإن ما يتعرض للوقف والتبيين، وللتبيين منتهىً منتظر، فلا معنى لإطلاق القول، بنفوذ الحكم، بل الوجه أن نقول: إذا أقر الكبير، لا نحكم بثبوت النسب، بل ننتظر ما تقتضيه العاقبة. ونقول على ذلك: لو مات المقر، أو المقر له قبل بلوغ الصبي، فلا توريث، بل نقف إلى التبيين. ولا ننُفذ أمراً يقتضي النظرُ رفعَه، ولا يرد على هذا إلا تصرّف المريض في مرض موته؛ فإنه يتبرع بجميع ماله، والمتبرَّع عليه يتصرفُ فيه. ثم إذا مات المريض فقد نتتبّع.... تصرفَه بحكم النقص. وفي هذا نظر غامضٌ سيأتي في الوصايا، ولكنّا مع تقدير التسليط نفرق بين تصرف المريض، وبين ما نحن فيه، فنقول: المرض وإن اشتد، فحكم الحياة غالبٌ في الحال، وليس الموت أمراً يُنتظر لا محالة، بخلاف بلوغ الصبي؛ فإنه مما ينتظر، ويناط بانتظاره أحكام.
ولو أقرّ الكبير من الابنين، ومات الصغير قبل بلوغه، ولم يُخلّف وارثاً سوى الكبير، فيستقر حينئذ إقرارُ الكبير؛ من جهة أنا أَمِنّا مخالفةَ الذي مات، وصار الكبير مستغرقاً للميراثين، وليس كما لو أقر أحد الابنين وكذب الثاني، ثم مات المكذب ولم يخلّف إلا المقر، فإنا على رأي لا نثبت نسباً ولا إرثاً؛ لأن التصديق مسبوق بتكذيبٍ، حُكم بموجبه.
4471- ولو مات الرجل، وخلف بنتاً فحسب، نظر: فإن كانت حائزةً للميراث، بأن ترث بالبنوة، النّصف، وبالولاء الباقي، فإذا أقرت بنسبِ مولودٍ مجهولٍ، ثبت النسب بإقرارها. وإن كانت لا ترث إلا بالبنوة، فأقرت بنسب مجهولٍ، لم يثبت بإقرارها النّسب؛ فإنها ليست مستغرِقةً، فإن النصف لها والباقي للمسلمين. فلو أقرت وساعدها الإمام النائب عن المسلمين، فهل يثبت النسب بإقرارهما؟ اختلف أصحابنا، فذهب بعضهم إلى ثبوت النسب لمكان الإقرارين. وقال آخرون:
لا يثبت، فإن حقيقة الوراثة لا تثبت للمسلمين. ونحن نرى استغراق الإرث بطريق خلافة الوراثة. وبنى الأصحاب هذا على أن الإمام لو أراد أن يقتصّ من قاتل من لم يخلّف وارثاً، فهل له ذلك؟ وفيه قولان. فإن أثبتنا الاقتصاص، لم يثبت ذلك إلا على حقيقة التوريث. وإن منعنا إجراء القصاص، احتمل أن نقول: ليست جهة الإسلام جهة توريث، ويتطرق إلى مسألة الإمام نظر، وهو أَنَّ قوله: ينبغي أن لا يُصوَّر حُكماً، فإن حكم الإمام نافذٌ لا مردّ له. ويتجه الغرضُ بأن لا يجوز للإمام أن يقضي بعلمه.
4472- ومما يتعلق بقاعدة المذهب أن الأئمّة قضَوْا بأن إقرار كافة الورثة بالنسب ينزل منزلة إقرار الموروث به. هذا معتمدهم، وظاهر المذهب أنّه لو كان في الورثة زوج، أو زوجة، فلابد من اعتبار إقراره، فإنه من الورثة، وخصص بعضُ أصحابنا الأمرَ بإقرار أصحاب القرابة؛ فإنهم المشاركون في النسب والمقَرُّ به نسبٌ. وهذا بعيد. ومال جماهير الأصحاب إلى اعتبار إقرار المولى، فإن الولاء لحمة كلحمة النسب، وفيه شيء عن بعض الأصحاب.
فأبعدُ سببٍ معتبرٍ في الاستغراق جهة الإسلام بنيابة الإمام، ويليها الزوجيّة، ويلي الزوجية، الولاء.
ولو صرفنا طائفةً من مال كافر، إلى أهل الفيء، لم يعتبر إقرار الإمام عن أهل الفيء بنسب، بلا خلاف؛ فإن ذاك ليس وِراثةً قطعاً، والمرعيُّ خلافةُ الوراثة. وأما من له قرابة من المتوفى ثم هو محجوبٌ بغيره من أهل النسب، فلا عبرة بإقراره، كالأخ مع الابن والأب، وكالعم مع الأخ، وكذلك المحجوب بالأوصاف، كالابن الكافر مع الابن المسلم، والمتوفى مسلم، أو بالعكس والمتوفى كافر.
كما يقبل إقرار الابن على أبيه بالنسب إذا كان مستغرقاً يقبل على جدّه، ولكنه على شرط الاستغراق، كما إذا أقر بعم ولم يخلّف جدُّه إلا أباه، وأبوهُ إلا إياه، أو قد خلف ثانياً سوى المقر ولكنه مات قبل موت أبيه، أو بعد موته.
وقد نجز تمهيد الكتاب.
4473- ونحن نلحق فروعاً بالأصل، منها:
أن من مات، وخلف ابناً، فأقر لمجهول بالنسب، فقال ذلك المقَر له
بالنسب: أنا ابن الميت، وهذا الذي أقر بنسبي ليس ابنَه. فقد ذكر أصحابنا في المسألة وجهين:
أحدهما: أن نسب المقَرّ له ثابت، ونسب المقِر-كما كان- ثابت، والإرث قائم، ولا أثر لإنكار هذا المجهول المقَر به، فإن هذه المسألة تُتصوّر إذا كان الابن المقر معروفَ النسب، فإذْ ذاك يُقر، ويبنى الأمر على إقراره، ويقضى بأنه على منصب الاستغراق لولا الإقرار، وإذا كان كذلك، فالنسب المشهور لا ينتفي بإنكار مجهول مقَر به.
وأبعد بعض أصحابنا، فقال: إذا أنكر المقَر له نسبَ المقِر، احتاج إلى أن يقيم البينةَ على نسب نفسه؛ لأنه معترف بنسب هذا المجهول، والمجهول منكر لنسبه، معترفٌ بنسب نفسه. وهذا من ركيك الكلام؛ لما قدمناه من أن المقر نسبُه مشهور.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً وهو أنه لا يثبت نسب هذا المجهول المقر به؛ فإن
سبيل ثبوتِ نسبه إقرارُ الابن المشهور النّسب، لا طريق غيرُه. فإذا زعم أن المقر له ليس نسيباً، فقد أنكر صحة إقراره؛ فإن من لا يناسب، ولا يرث، لا حكم لإقراره.
4474- ومما نفرعه أن من مات وخلف ابناً واحداً في ظاهر ما يظن، فأقر الابن المشهور النسب لمجهولَيْن بالبنوة، فكذب أحدُهما صاحبَه، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: يثبت نسبهما ولا عبرة بتكذيب أحدهما الآخر؛ لأن من كان على منصب حيازة التركة أقر بهما، فيثبت نسبهما، ولا أثر بعد الثبوت لتناكرهما.
والوجه الثاني- لا يثبت نسب واحد منهما؛ لأن المشهور مقر بكونهما وارثَيْن، فإذا تناكرا، فلا يجتمع لواحد منهما إقرارُ جميع الورثة.
فإن قيل: إذا أقر الابن الذي كنا لا نحسب غيره وارثاً بنسبِ مجهولٍ، فقد خرج المقِر عن كونه مستغرقاً، فإذا ثبت نسب الثاني، فهذا إذاً يناقضُ اعتبار كون المقر مستغرقاً. قلنا: المعنيُّ بكونه مستغرقاً أن يُقدرَ كذلك لو فرض عدم إقراره؛ فإن الإقرار يُغيِّر حكمَ الظّاهر الذي يستند إليه الإقرار؛ فإن صاحب اليد والتصرف إذا أقر بأن الدار التي في يده لفلان، قضينا لملك المقر له ظاهراً، وأقررنا يده على المقر به، وإن كان إقرار المقر تضمن إخراجه عن استحقاق اليد والتصرف. فأصل الإقرار المفيد أن يصدر عمّن له منصب الاستحقاقِ، ثم مقتضاه خروجه عن حقيقة الاستحقاق.
ثم إذا أقر ابن بابن مجهول، فهما المستغرقان، وقد ثبت في حق المجهولِ إقرارُ المعروف، وتصديق المجهول، فيجتمع له قول من يستغرق الميراث.
4475- وممّا فرعه الأصحاب أن قالوا: إذا مات رجل، وخلّف من يحكم بكونه وارثاً ظاهراً، فأقر بمن إذا ثبت كونه وارثاً، كان المقِر محجوباً به، مثل أن يخلف أخاً من أبٍ، ولم يعرف غيره، وإذا انفرد الأخ استغرق، فإذا أقرَّ بابنٍ مجهولٍ للمتوفى، فالابن يحجب الأخ.
قال بعض الأصحاب: يثبت نسب ذلك الابن، ولكنّه لا يرث؛ فإنّ في توريثه إسقاطَ توريثه؛ إذ لو ورثناه، لحجب الأخَ المقر، وإذا صار محجوباً، خرج عن أن يكون وارثاً، ومن لا يرث، لا يقبل إقراره، وإذا لم يقبل إقراره، لم يثبت النسب. وهذا من الدوائر الحُكمية، وسأجمعها على أبلغ وجهٍ في البيان في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى.
4476- وأنا أذكر حظّ هذه المسألة من الأدوار: أما توريث المقر به، فلا سبيل إليه؛ لأنا لو قدرناه، كان مستندَ إقراره محجوبٌ.
ومن أصحابنا من قال: يرث الابنُ، ويسقط الاخ. وهذا الوجه ذكره صاحب التقريب، واختاره، وذكره العراقيون، وسقوط الأخ-وإن كان قوله حجة- كسقوط حق صاحب اليد إذا أقر بما في يده.
وأمّا نسبه، فالذي ذهب إليه الجمهور أن النسب يثبت؛ إذ لا منافاة بين ثبوته وبين تصحيح إقرار المقِر به، إذا كنَّا لا نُثبت التوريث، وكم من نسبٍ لا يناط التوريث به.
فكأن هؤلاء يُثبتونَ موجَب الإقرار إلى أن ينتهي الأمر إلى انعكاس الحكم وانتفائه، من جهة ثبوته. وهذا متحقق في الإرث وحده.
وذهب طائفة من المحققين إلى أن النسب لا يثبت، لأنَّ في إثباته إيجابَ التوريث، ثم تدور المسألة، فالوجه المصيرُ إلى أن إقرارَ من نقدره وارثاً بنسبِ حاجبهِ مردود أصلاً.
وسنكثر الدوائر الحكميّه في النكاح، ونجري فيها أمثالَ ما ذكرناه الآن، ونقسمها إلى لفظياتٍ تتلقى من صيغ الألفاظ.
وقد انتهى أصل مذهب الشافعيّ في الباب، وبيّنا تفرُّعَه، وصدور المسائل عنه.
4477- والآن كما انتهينا إلى معضلات الباب وإشكاله، قد ذكرنا في صدر الباب لما حكينا تعليلَ المذهب مما نفرض من إشكالٍ، فإن أحد الابنين إذا أقر بثالث، وأنكر الثاني، فالمقر معترفٌ بأن هذا الثالث يستحق مما في يده شيئاًً، فترْكُ مؤاخذته بموجَب إقراره في خاصيّته بعيدٌ عن الأصول.
وقد ذكر صاحب التقريب مسلكين للأصحاب:
أحدهما: أنه لا يثبت للثالث المقَر به مطالبة المقر بشيء ممَّا في يده ظاهراً، ولكن إن لم يكن المقِر على بصيرة في إقراره فلا نُلزمه شيئاًً باطناً لذلك الثالث، كما لا يلزمه ظاهراً. وإن كان على بصيرةٍ في إقراره، وقد يستندُ إقرارُه على مشاهدة لا يُمكنُ التماري فيها، وذلك إذا ماتت امرأةٌ وخلّفت ابنين، وكان شاهَدَ أحدُهما ولداً ثالثاً انفصل منها. قال: إذا كان كذلك، فهل يلزمه أن يدفع ممَّا في يده شيئاًً إلى المقَر له؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يلزمه؛ إذ لو لزمه باطناً، للزمه ظاهراً؛ فإنه بإقراره أظهر ما قدرنا ثبوته باطناً، وهو من أهل الإقرار والإظهار.
والثاني: يلزمه في الباطن؛ لأن الطّلبة في الظاهِر تتعلق بثبوت النسب ولم يثبت ظاهراً، ولكنه ثابتٌ في علم الله تعالى، فإذا لم يجر ما يقتضي في الظاهر ثبوت النسب، فلا طلب ظاهراً. وإذا تحققه المرءُ باطناً، لزمه أن يشركه باطناً، لعلة الباطن، لا لقوله الظاهر. هذه طريقة.
والطريقة الثانية- أنه حكى خلافاًً ظاهراً في أنه هل يجب على المقر تشريك المقَر له ظاهراً؟ فعلى وجهين:
أحدهما: وهو الذي يوافقُ النصَّ، أنه لا يجب.
والثاني: يجب، وهو مذهبُ أبي حنيفة؛ يؤاخذ به ظاهراً وحكم الباطن منوطٌ بالتحقيق والثبوت في علم الله تعالى. وهذا قد يُعزَى إلى ابن سُريج، وهو مخالفٌ للنصّ.
فإن قلنا: لا يشارك المقَرّ له المقِر أصلاً، وهو ظاهر المذهب، فلا كلام. وإن قلنا: يشارك المقَر له المقِر، ففي مداره وجهان: ذكرناهما. والوجهان يوافقان مذهبين لإمامين:
أحدهما: ابنُ أبي ليلى والثاني أبو حنيفة. ونحن نذكر مذهب كل واحدٍ منهما في المقدار الذي يستحقُّه الثالث المقَر به مما في يد المقر، وإذا بان المذهبان، فهما الوجهان المنسوبان إلى أصحابنا.
4478- أما مذهبُ ابن أبي ليلى، فليقع الفرض في ابنين أقر أحدهما بابنٍ ثالثٍ، وأنكر الثاني، فيقول ابن أبي ليلى: يغرَم المقر للمقر له ما كان يغرمه، لو أقر صاحبه بهِ. وبيان ذلك: أن الابنين لو أقرا بثالثٍ، وتصادقا، لكان ذلك الثالث مستحقَّ ثلثِ التركة، فتصور ابنين يقتسمان التركة ثم يبدو ابنٌ ثالثٌ، ويثبت نسبه ببينةٍ، أو بإقرارهما، فإنه يستردّ من كل واحدٍ منهما ثلث ما في يده، فيبقى لكل واحد ثلثُ التركة، ويحصل لهذا الثالث ثلثُ التركة.
وحرّر الفقهاء مذهبَ ابن أبي ليلى فذكروا فريضةً في الإنكار منهما، وفريضة في الإقرار منهما، فنقول: لو أنكر الاثنان نسب الثالث فالميراث بينهما نصفان، من سهمين. ولو أقرا بثالثٍ، فالميراث بينهم من ثلاثةِ أسهمٍ. فنضرب فريضة الإقرار في فريضة الإنكارِ، فيرد علينا ستةً، ونقول بعده: لو أنكرا والقسمة من الستة، فلكل واحدٍ منهما ثلاثةٌ، ولو أقرا والقسمة من هذا المبلغ فلكل واحدٍ سهمان. فإذا أقر أحدهما، وأنكر الثاني، فالمنكر يأخذ من فريضة الإنكار، ويفوز بها، والمقر يأخذ من الثلاثة من حسابِ فريضة إقرارهما بالثالث، وهو سهمان، ويُسلم سهماً إلى المقَر له، فيخلصُ له ما بين فريضة الإقرار والإنكار من حصّة المقر، وهذا بيّنٌ.
وأما أبو حنيفة، فإنه يقولُ: يقدر كأَنَّ المنكِر وحصتَه مفقودان، ويقسم ما في يد المقِر والمقر له بينهما نصفين؛ فإن المقر له يقول إن ظلمني المنكِر، فأنت معترف، وأنا في كل درهم بمثابتك، فينبغي أن تستوفي ما في يدك.
هذا بيان المذهبين. والوجهان المنسوبان إلى الأصحاب، هما المذهبان اللذان ذكرناهما. وارتضى المحققون مذهب ابنِ أبي ليلى؛ من جهة أن تنصيفَ ما في يد المقر قسمةٌ تخالف الإنكار والإقرار جميعاً، والمقر لهُ معترف باستحقاق المنكر من الاثنين.
4479- ثم قال صاحب التقريب: إذا اخترنا مذهبَ ابن أبي ليلى، فلابدَّ من تفصيلٍ به يتهذب الغرض، فنقول: مذهب ابن أبي ليلى أن المقر لا يغرَم للمقَر له إلا الزيادة التي حصلت في يده على زعمه بسبب الإنكار، ولا يغرَم له ما استبدَّ به صاحبهُ.
قال: وهذا مفروضٌ في صورةٍ مخصوصةٍ، وهي أن يقاسم المقر أعيان التركة قهراً، والمنكر ممتنع عن القسمة، فإذا كان كذلك، فالجوابُ ما ذكرناه عن ابن أبي ليلى.
فأما إذا جرت القسمة بين المقر والمنكر طوعاً، فقد كانت يدهما ثابتة على الجميع ثبوتاً سائغاً، فلما اقتسما، فقد رفع المقر يده عن نصفِ حصّةِ الثالث، وسلمه، وترك المنكر على المقر مثلَ ذلك، وإذا انتسب المقر إلى تسليم نصف حصّة الثالث إلى المنكر، كان معتدياً فيه، فيلزمه أن يغرَم ما حصل في يد صاحبه، كما يغرم ما حصل في يده من الزيادة. وهذا يظهر إذا جرت القسمةُ طوعاً، والمقر عَالمٌ بأن معهما ثالثاً مستحقاً، فيخرج من ذلك أنهما إذا كانا ابنين، فاقتسما التركة طوعاً نصفين، مع علم المقر، فيغرَم للمقَر له من حصّة نفسه. وحصةُ المقَرّ له الئلث، فيغرم له الثلثَ من نصفه، لتفريطه.
هذا إذا طاوع في القسمة، وكان عالماً باستحقاق الثالث.
فأما إذا قاسم أخاه طائعاً، ولكن لم يكن عالماً بعدُ بنسب الثالث، ثم بعد القسمة أحاط علمُه بذلك، قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان في هذه الصورة:
أحدهما: أنه يغرَم للمقر له ما كان يغرمه لو كان مجبراً على القسمة، لأنه لم يكن مقصراً عند إقدامه على القسمة، وكان حكم الله في ظاهر الحال ما أجراه. فكان كما لو جرت القسمة قهراً.
والوجه الثاني- أنه يلزمه في هذه الحالة ما كان يلزمه لو أقدم على القسمة مع العلم؛ فإنا لا نفصل بين العلم والجهل فيما يليق بالغُرْم أصلاً. وإنما نفصل بينهما فيما يرجع إلى المأثم.
هذا منتهى نقل صاحب التقريب وتصرفه.
فصل:
قال: "ولو قال في المرأة تقدم من أرض العدو، ومعها ولد... إلى آخره".
4480- مضمون هذا الفصل ليس يتعلق بهذا الكتاب، فإنه تعرّضٌ للقول في لحوق الأنساب، وما يعتبر فيها من الاحتمال. وهذا يُذكر طرفٌ صالحٌ منه في اللعان، ثم يُستوعب في باب الدعوى والقائف، ولكنّا نذكر حاصل الفصل، للجريان على ترتيب السواد، فنقول:
النسب لا يلحق عندنا إلا مع ظهور الإمكان، ولا يشترط ظهور الإمكان، بل يكفي تصوُّره على بعدٍ، فإذا لم يكن إمكان، لم يلحق أصلاً، فإذا قدمت امرأةٌ من أرض الرُّوم مثلاً، ومعها ولدٌ لها، فادعى واحدٌ من ديارنا أنه ولده، وكان بحيث يولد مثله لمثله، فإن كان غاب المدّعي عن بلده مدة تحتمل وصوله إليها قبلُ، لحقه النسب، وإن لم يخرج هو قط، فكان بمرأى منا مذ نشأ، وكنّا لا نبعد دخول تلك المرأة هذه الديار، على اجتهادٍ أو ظهور، فالاحتمال قائمٌ. وإن تحققنا أنها لم تدخل هذه الديار قط، والرجل لم يخرج عن هذه الديار، ولا احتمالَ، فالدعوى باطلة. ولأبي حنيفة في هذا خبطٌ لا حاجة إليه. ثم أجرى كلاماً يتعلق بمناظرة أبي حنيفة، ولا حاجة بنا إلى ذكرها، فإنا إنما نذكرُ ما يتعلق بتمهيدِ المذهبِ، أو ما ينشأ منه مسائل مذهبيَّة.
والقدر الذي ذكرناه من رعاية الإمكان بالاستقلال فيه، فإن هذا أحد ما يعتبر. وأصولُ اللحوق بالقرائن، والدعوى، تستقصى في الكتابين: كتاب اللعان، وكتاب الدعاوى.
فصل:
قال: "وإذا كانت أمتان لا زوج لواحدٍ منهما... إلى آخره".
4481- صورة المسألة: أن يملك الرجل أمتين لا زوج لواحدةٍ منهما، ولكل واحدةٍ ولدٌ، فقال المالكُ: أحد هذين ولدي، ثبت النسبُ لأحدهما، لا بعينه ويطالَب بالتعيين، فإذا عيّن أحدَهما، نحكم بعتقه؛ فإن الابن يعتق على الأب.
وأما أمّيّة الولد، فنقول: إن كان قال: قد استولدتُها في ملكي، وصرَّح تصريحاً لا يُبقي للتأويل مساغاً، فهي أم ولدٍ؛ فإنه خلق حراً.
وإن قال: هذا ابني، ولكن استولدتُ الجارية في النكاح، وكنت نكحتُها، ثم اشتريتُها، فهي قِنٌ، والولد خلق رقيقاً، وقد عَتَقَ الابن على أبيه، فعليه الولاء.
وإن قال: استولدتُها بشُبهةٍ، ثم ملكتها ففي كونها أم ولد قولان، معروفان، ولا ولاء على الولد؛ فإن الولد الحاصل من وطء الشبهة حُرّ الأصل.
ولو لم يتعرض لهذه التفاصيل، واقتصر على قوله: هذا ولدي من هذه، وأشار إلى مملوكته، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن الإقرار المطلَق محمول على الاستيلاد في الملك، ويُثبت أميّة الولد، والولد حر الأصل. والوجه الثاني- أن أمّيّة الولد لا تثبت بالإطلاق، ولا يثبت إلا النسبُ، وحريةُ الولد بالمطلق. وهذا قدمناه في أوائل الإقرار واستقصيناها فيه.
فإذا عيّن السيد أحد الولدين، وقلنا: تثبت أمّيَّة الولد للجارية، والحرية الأصليّة للولد، فلو جاءت الثانيةُ، وقالت: إنَّ ولدي ابنكَ، عَلِق في الملك منكَ، وأنا أم ولدك، فلو كان بلغ الابنُ، فجاء وادعى أنه الابنُ، فلا شكّ أن القول قول السيد في الخصومتين. ولا يخفى حكم حلفه. فلو نكل، حلفت إن كانت هي المدَّعية، وحلف الولد إن كان هو المدّعي، فيثبت نسبُ الولد الأوّل أو عتقه بالإقرار، ونسبُ الثاني وعتقُه بيمين الرد بعد النكول.
فإن مات قبل التعيين، فيقوم الوارث مقامه في التعيين، وتعيينه مقبول على التفصيل الذي ذكرناه في تعيين الموروث، وحكم الجارية والولد كما سبق.
فإن مات الموروث، وقال الوارث: لا أعلم، فقد تعذَّر طريق التعيين من الموروث والوارث، فإن أمكننا أن نُرِي الولدين القائفَ إن كان رأى الموروث، فعلنا، ثم نتّبع إلحاقَ القائف على السداد، فإذا ألحق أحدَهما، فهو السَّببُ ويثبت العتق لا محالة في الولد.
ثم قال الأصحاب: لا نفصل معنىً في كيفية الإعلاق. والأمر مشكلٌ، فنجعل إلحاق نسب المولود في هذه الصورة بمثابة ما لو أطلق السيّد، وقال: هذا ولدي من هذه، ولم يتعرض لتفصيل وقت العلوق. فهذا أوْلى حالة يعتبر إلحاق القائف بها؛ من جهة أن إلحاق القائف كاستلحاق السيّد.
فإذا جرى اللحوق منها، فالأمرُ على ما فصّلناه.
فإن لم نجد قائفاً، قال الأصحاب: نقرع بين الولدين، فإذا خرجت القرعة لأحدهما، لم نثبت النسب بالقرعة؛ فإن القرعة خارجةٌ عن القياس، فلا نثبتها في غير محل النصّ، وإنما وردت القرعة المؤثرة في العتق.
4482- وممَّا يتم به البيان أنه إذا عرفنا أنه مات عن ابن حُر، والتبس علينا عينُه، فهل نقف بينهما ميراث ابنٍ؟ اختلف أصحابنا في المسالة، فذهب الأكثرون إلى أنا نقِف ميراثَ ابنٍ، لقطعنا بأن أحدهما مستلحقٌ، وقد أشكل عينُه، فكان ذلك كما لو طلّق الرجُل إحدى امرأتيه ولم يبيّن، ولم يعيّن، حتى مات؛ فإنا نقفُ لهما ميراث زوجةٍ؛ من جهة أنا عرفنا أن إحداهما زوجة، والجهل بالعين لا يمنع أصل الاستحقاق.
والوجه الثاني- أنا لا نقف لهما من الميراث شيئاًً، لاستبهام النسب، واليأس من الوصول إلى البيان، والميراث لا يناطُ إلا بسببٍ ظاهرٍ، ولهذا قلنا في ظاهر المذهب: إذا اعترف أحد الابنين بابنٍ ثالثٍ، لم يلزمه أن يدفع إليه شيئاً من حصته إذا كان صاحبه منكراً.
وهذا تلبيسٌ؛ فإن أصل الاستلحاق قد ثبت في مسألة الابنين، وإذا أقر أحد الابنين بثالثٍ، وأنكر الثاني، لم يثبت أصل النسب؛ فإن إقرار أحد الابنين إقرار منه على الميّت، فلم نر قبوله إلا من أهل الاستغراق.
4483- والذي يجب ذكره تجديد العهد بجامع القَول في الفصل في معرض الضبط والترجمة، فنقول:
إذا قال السيّد: أحد هذين الولدين منّي، فالقولُ في أميّة الولد، والولاء على أحد الولدين، وربطُ هذين الحكمين بذكر السيّد تفصيلَ الإيلاد وإطلاقَه اللفظ لا شك فيه.
والغرض الآن إيضاح التعيين بعد الإبهام، فالبداية في طلبِ التعيين بالسيّد، فإن
مات قبل التعيين، فالرجوع إلى ورثته، فإن ماتوا، ولم يُعلموا، فإنا بعد انسداد البيان من الجهتين نتعلق بالقائف. وإنما تقعُ البدايةُ بالقائفِ، إذا لم يكن في المسألة من يُعتمدُ قوله في التعيين حُكماً، فإن فرض نزاع، فصلت الخصومة بطريقها.
ومن محال القائف أن يتنازع رجلان في مولود، فادعى كل واحدٍ منهما أنه ابنه فليس أحدهما أولى بالدعوى من الثاني، فنُري الولد القائف، وفي مسألتنا ما لم نعجز عن مراجعة السيّد وورثته، لا نتعلق بقول القائف. فإن لم نجد القائف، أو غلط، وعسر التعلق بقوله، فالرجوع إلى القرعة. وفائدتها الحكمُ بالعتق لا بالنسب، كما تقدم، ثم إذا تعيَّن أحدُ الولدين المعتق، فهل تحصل أميّة الولد بخروج القرعة على الولد؟ المذهب الصحيح أنه لا تحصل؛ فإن أميّة الولد تبع النسب، وقد ذكرنا إن النسب لا يثبت بالقرعة. فإذا لم يثبت، لم يثبت الاستيلادُ. ومن أصحابنا من حكم للأم التي تخرج القرعة على ولدها بأمية الولد، وتعلق بأن معنى الحكم بالاستيلاد تحصيلُ الحرمة للأم، وذلك حكمٌ بالعتاقة، ولا يمتنع حصول العتاقة تعييناً بالقرعة.
والمسألة مفروضة فيه إذا جرى الإقرار المبهم من السيد، بحيث يقتضي الاستيلاد، ثم من لم يحصّل الاستيلاد لأم الذي تعيّن للحريّة؛ فإنه يقول: بين الجاريتين كما بين الولدين عتقٌ. ولكن لا قائل بتفرد الجاريتين بالقرعة. وإن كان يعسرُ إتباع أمرهما الولدين، فإنا لسنا ننكر حصول الحرية على التعيين بطريق القرعة.
4484- ومما يتم به الفصل أن الإقرار إذا جرى على وجهٍ يقتضي ثبوتَ النسب
للولد، ولا يقتضي أميّة الولد، ثم يثبت النسب، ويعيّن لأحدهما، فتثبت الحريّة له، إما مع ولاءٍ أو من غير ولاءٍ، ويستحق الإرثَ إذا جرى التعيين من المُبهِم، أو من الورثة.
ثم إذا حكمنا بانتفاء الاستيلاد، فالذي يرث يملك بالإرث قسطاً من أمه، فيعتق عليه ذلك القدر، بحكم الملك، ثم لا يسري العتق؛ فإن الملك الحاصل بالإرث قهري، وإذا ترتب العتق على ذلك فهو قهري لا تسبب فيه، فلا سريان بذلك العتق، كما سيأتي مقرراً في كتاب العتق، إن شاء الله تعالى.
فصل:
قال المُزني: سمعته يقول: "لو قال عند وفاته لثلاثة أولادٍ: أحد هؤلاء ولدي... إلى آخره".
4485- صورة هذه المسألة: أن الرجل إذا كانت له أمةٌ، ولها ثلاثة أولادٍ، وأنسابهم مجهولة، وليست ذاتَ زوج، ولم يثبت أن المولى يستفرشها، والأولاد على الملك لرق الأمّ فلو قال السيّد: أحد هؤلاء الأولاد ولدي، فيطالب بالتعيين.
ولنفرض المسألةَ فيه إذا ذكر هذا الاستلحاق على صفة تقتضي أميّة الولد؛ فإن مقصود المسألة وراء ذلك، فنقول: الجارية أم ولد، والنظر بعد ذلك في تعيين الولد المستلحق، فنرجع إلى السيد ونطالبه بتعيين المستلحق، فإن عيّن الأصغر حكم بعتقه، والأكبر والأوسط رقيقان. وإن عيّن الأوسط، ثبت نسبه و وقع الحُكم بعتقه، وثبت أن الجارية صارت فراشاً به، وجرى فيها الاستيلاد؛ فالولد الأصغر ولد مستولدة؛ فإن لم يدّع الاستبراء، عَتَق الأصغر أيضاً، وثبت نسبه.
وإن ادعى الاستبراء، ففي انتفاء نسب الأصغر تفصيلٌ يأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى- في آخر كتاب الاستبراء، عند ذكرنا أن الإقرار بوطء الجارية يتضمَّن استلحاقَ الولد الذي تأتي به على الجملة إذا لم يجدد دعوى الاستبراء بعد الإقرار بالوطء.
والمسألةُ مختلفٌ فيها في المستولدة إذا ادّعى السيّد استبراءها، ثم أتت بولد لو كان يحتمل أن يكون العلوق به بعد الاستبراء. وليس من الممكن الوفاء بشرح هذا.
فإن لم يثبت نسب الولد الصغير لدعوى الاستبراء بعد الأوسط، فهل يعتق هذا الولد الأصغر إذا عَتَقت الأم بموت المولى؛ من جهة أنه وإن كان عن سفاح، فهو ولد مستولدة. والأولاد الذين تأتي بهم المستولدة عن سفاح أو نكاح يثبت لهم من عُلقة الحرية، ما ثبت للأم، ويعتقون بما تعتق به الأم؟ فنقول:
4486- نقدم صورة مقصودة في نفسها يترتب عليها غرضنا فيما ذكرناه. فإذا رهن الرجل جاريته، وأولدها بعد ذلك، وقلنا: لا يثبت الاستيلاد، فبيعت في الرهن، وأتت بأولادٍ بعد زوال الملك، عن نكاحٍ أو سفاحٍ، فلو ملك الراهن تيك الجارية، فللأصحاب في حصول أميّة الولد لها عند ثبوت الملك عليها طريقان: منهم من خرَّج ذلك على ما إذا وطىء جارية الغيرِ بشبهةٍ وعلقت بولدٍ حرٍ، ثم اشتراها، ففي حصول الاستيلاد في الملك الطارىء قولان، فكذلك إذا ردَدنا الاستيلاد في المرهونة، وبيعت، وعادت ملكاًً للراهن، فالمسألة على قولين.
ومن أصحابنا من قطع بأنها مستولدة، بخلاف ما إذا وطىء الرجل جاريةَ الغير بشبةٍ وأولدها ثم ملكها. والفرق أن وطء الراهن صادف مملوكتَه، ولكن امتنع نفوذُ الاستيلاد، لحق المرتهن، وانبنى عليه في حقه، فمهما عادت، ثبت الاستيلاد في ملك الراهن.
فإذا وقع التفريع على هذا-وهو الأصح- فلو ملكها الراهن، وملك أولادها الذين أتت بهم لمَّا زال الملك عنها، فهل يثبت للأولاد عُلقة الاستيلاد؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يثبت؛ فإنّها أتت بهم وهي مملوكة مطلقة، وإنما يثبت للأولاد حريّة الاستيلاد إذا وجد في الحال أميّة الولد للأُمّ.
والثاني: يثبت لهم حريّة الاستيلاد، إذا ملكهم كما ملك الأمّ؛ فإنهم يتبعونها؛ فإذا ثبت لها الاستيلاد عند الملك الطارىء، وكانت مملوكةً قبلُ، لم يمتنع حصول الحرية لأولادها.
ولا شكَّ أن السيّد لو ملك أولادها، ولم يملكها، لم تثبت الحرية لهم؛ فإنهم يتبعون الأُم؛ فإذا كانت هي مملوكة مطْلَقة تحت أيدي المتصرّفين فيها، فيستحيل أن يثبت لأولادها الحريةُ، بطريق التبعيَّة، وهي مملوكة.
4487- فإذا ثبتت هذه المقدمة عُدنا إلى غرضنا من الكلام في الولد الصَّغير، وقد ثبتت أميّة الولد بالولد الأوسط، فمن الممكن أن يفرض كونها مرهونة، على الترتيب الذي نظمناه، ثم نصوّر إتيانها بالولد الصغير بعدما بيعت، فإن كنّا نرى أنه لو ملك الراهن الأمَّ، وهذا الولد الصغيرَ، تثبت الحرية للولد، فيلزم عند الحكم بأميّة الولد بالولد الأوسط الحكمُ بثبوت الحريّة للولد الأصغر.
وإن كنا نقول: لا تثبت الحرية للولد الذي أتت به ومِلْكُ الراهن زائلٌ عنها، فإن صرَّح السيد المقر بهذا التفصيل، فالولد الأصغر رقيق. وإن لم يتعرض لهذا التفصيل، ولكن أطلق استلحاقَ الولد الأوسط على وجهٍ يقتضي أميّة الولد للجارية، فما حكم إطلاق هذا الإقرار؟
فعلى وجهين:
أحدهما: أن الحرية تثبت للأصغر؛ حملاً على ما يظهر جريانه من ثبوت الاستيلادِ تَنَجُّزاً بالولد الأوسط. وهذا القائل لا يحمل على الصورة النادرة المذكورة في المرهونة. والوجه الثاني- أنا لا نحكم بالعتق والحريّة في الولد الأصغر عند إطلاق الإقرار؛ فإنا نجد من طريق الإمكان جريانَ تلك الصورة المذكورة في الرهن، وإذا أمكن وجهٌ، فلا طريق إلا مراجعة السيد المقر.
هذا حاصل الكلام فيه. إذا عين الأوسط على وجهٍ تثبتُ أميّة الولد به.
فأمّا إذا عيَّن الولد الأكبر، فهو حر والجارية أم ولدٍ، وفي الولد الأوسط والأصغر من الكلام ما ذكرناه في الولد الأصغر في الصورة المتقدمة.
4488- ومما أجراه الشافعي في المسألة إذا استلحق على الإبهام ولداً، وحكمنا بأميّة الولد، ثم مات قبل البيان، وعسر الرّجوع إلى الورثة أيضاً، قال: نقرع بين الأولاد كما قدمناه، فقال المزني: الصغير منهم يجب أن يعتق بكل حساب؛ فإن الاستيلاد إن كان به، فهو حر، وإن كان الاستيلاد بالأوسط أيضاً عتق الأصغر؛ لأنه ولد أم ولد، وكذلك إن كان الاستيلاد بالأكبر. ثم قال: الأصغر يعتق بثلاث تقديرات ولا رابع لها في الإمكان: يعتق إذا فُرض الاستيلاد به، والمعنيّ بالعتق الحرية. هذه حالة.
والثانية- أن يقع الاستيلاد بالأوسط. والثالثة- أن يقع الاستيلاد بالأكبر.
وللأوسط حالتا حرية، وحالةُ رقٍّ: إحدى الحالتين أن يحصل الاستيلاد به، والأخرى أن يحصل الاستيلاد بالأكبر. وحالة الرق أن يحصل الاستيلاد بالأصغر.
والأكبر له حالة حرية، وحالتا رق: فحالة الحريّة أن يحصل الاستيلاد به، وحالتا الرق إحداهما- أن يقع الاستيلاد بالأوسط، والأخرى أن يقع الاستيلاد بالأصغر.
وسياق كلامه أن الإقراع لا معنى له بين الأولاد الثلاثة. والصغير حرٌّ من كل وجهٍ.
وهذا الذي ذكره يجيب عنه ما قدمناه من التقديرات والاحتمال.
4489- ثم قال قائلون: وإن وافقنا المزني في أن الأصغر يعتق، فلا بأس بإدخاله في القرعة مع الأكبر والأوسط، وليس أثر إدخاله أن يقدّر رقه، ولكن فائدة إدخاله أن قرعة العتق لو خرجت عليه رَقَّ الأوسط والأكبر. ولهذا نظائر من أحكام القرعة ستأتي مستقصاةٌ في كتاب العتق، إن شاء الله تعالى.
فإذن نقول: يقرع بينهم على طريقة الأصحاب في موافقة المزني في عتق الأصغر، فإن خرجت القرعة على الأصغر، رَقَّ الأوسط والأكبر، وإن خرجت قرعة الحرية على الأكبر، عَتَق الأولاد الثلاثة، وإن خرجت قرعة الحريّة للأوسط، عَتَق، وعَتق الأصغر، ورَق الأكبر. وإن خرجت القرعة للأصغر، حكم بحريته ورَق الأكبر والأوسط.
ومن أصحابنا من قال: يخرج الأصغر من القرعة، ويقرع بين الأكبر والأوسط.
وهذا غير صحيح؛ فإنا إنما نقرع بين عدد نستيقن فيهم حراً. وإذا كنّا نجوز حصول الاستيلاد بالأصغر ونُرِق الأوسط والأكبر، فلا وجه للإقراع على هذا الوجه.
وهذا الفصل لا يحتمِلُ تحقيق القول في كيفيّة الإقراع، فالوجه أن نحيل استقصاءه على باب القرعة.
أما نصّ الشافعي، فإنه مصرحٌ بإدخال الثلاثة في القرعة، وظاهر النص أنا لا نعيّن الأصغر للحريّة أيضاً. وهذا هو الذي أحوج الأصحاب إلى فرض الصورة النادرة التي ذكرناها في المرهونة.
ومما يتعيَّن التنبيه له من كلام الشافعي والمزني؛ أن الشافعي لمَّا أقرع بينهم، قال: من خرجت له قرعةُ الحرية عَتَق، ولم يثبت نسبٌ ولا ميراثٌ، وفرض الشافعي مع هؤلاء الثلاثة ابناً معروف النسب للمتوفى، واقتضى كلامه صرفَ الميراث إليه، فقال المزني: يتعين أن نقف شيئاًً من الميراث للأولاد الثلاثة؛ فإن فيهم نسيباً بحكم إقرار المتوفَّى. وقد رأينا كلاماً للأصحاب في أنا هل نقفُ الميراث مع إشكال النسب، والأقيس أن نقف كما ذكرناه في إبهام طلقةٍ بين امرأتين، فنصُّ الشافعي لا يخرج إلا على هذا الوجه الضعيف في أنَّا لا نقف الميراث إذا استبهم النسب، وكان لا يتميز. وهذا مشكل كما ذكره المزني.
4490- ثم ذكر المزني الصحيح عنده ولم يبده مذهباً لنفسه، بل ألحقه بمذهب الشافعي، فإنه قال: قياس مذهب الشافعي كذا وكذا. وفيما أبداه المزني إشكال أيضاً، فإنه قال: الابن الصغير حر قطعاً، وحكم له بالميراث، ثم قال: يصرف ربع الميراث إلى الابن المعروف، وربعه إلى الأصغر من البنين الثلاثة، ونقف النصفَ بين الأكبر والأوسط، وبين المعروف والأصغر.
أمّا تسليمه الربع إلى المعروف، فبيّن، وفي قطعه بتوريث الأصغر مجالٌ للنّظر، فإنه يجوز أن يقال: حصلت حريته بموت المستولِد تبعاًً للأم وإذا كان هذا من جهات الحرية، فما وجهُ القطع بتوريثه؟ فنقول: إنّما قال المزني ذلك على أصلٍ، وهو أن الاستيلاد إذا كان بالأصغر؛ فإنه يرث، وإن كان بالأكبر والأوسط، فنسب الأصغر يثبت أيضاً لثبوته بعد ثبوت الفراش. والقول مفروض فيه إذا لم يدَّع الاستبراء، و قلنا: يلحق النسب مع دعوى الاستبراء، فإنّ في ذلك خلافاً مشهوراً في المستولدة. هذا مخرج كلام المزني.
وأمّا وقف النصف، فهو على قانون التوقف في مواريث الخناثى على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
وقد نجز الفصل على نهاية البيان، مع الاعتراف بالإشكال في معنى النص؛ فإنّه اجتمع فيه إدخال الأصغر في إمكان الرق، وقطعُ الميراث، مع القطع بأن في الأولاد نسيباً. أمّا خروج الأصغر على الرق، وعن تعيّن العتق، فلا يخرّج إلا على وجه الصُّورة البديعة التي تكلفها الأصحاب في المرهونة، وأمّا ترك وقف الميراث بين البنين، فلا يخرّج إلا على وجهٍ ضعيفٍ أشرنا إليهِ.
فصل:
قال: "ويجوز الشهادة أنهم لا يعرفون له وارثاً... إلى آخره".
4491- إذا مات الإنسان، فجاء رجل وادّعى أنه وارثه، ولم يبين جهة استحقاق الميراث، لم تسمع دعواه. ولو أقام بينةً على هذه الصفة، فهي باطلة؛ لأن العلماء مختلفون في أعيان الورثة، وجهات التوريث، فلابد من التنصيص والتعيين.
ولو جاء إنسان وقال: أنا ابن الميت، وأقام بينةً على ذلك، فلا يكفي هذا أيضاً، حتى يتعرض المدعي والشاهدان لكونه وارثاً؛ فإن الابن قد لا يرث بأسباب، والغرض إثبات استحقاقٍ، فليقع التعرضُ لهُ.
ثم إذا شهد عدلان على أن هذا ابنُ الميتِ ووارثُه، فلابد من التعرض لنفي من عدا هذا المذكور، ليتبين أنه مستغرِق أو مشارك. فإذا شهد عدلان من أهل الخبرة الباطنة على أن هذا ابنهُ ووارثه، لا نعرف له وارثاً سواه؛ فإذا قامت البينة كذلك، سلم القاضي التركة إلى المشهود له.
وقال الأئمة: لابد من الخبرة الباطنة في ثلاث شهاداتٍ: هذه إحداها، والثانية- الشهادة على العدالة، والثالثة- الشهادة على الإعدام، وإنما اشترطنا الخبرة الباطنة في هذه الأشياء؛ لأن مستند الشهادة فيها النفيُ على وجهٍ لا يستيقن، ولكن مست الحاجة إلى قبول البينة في هذه المنازل، والاكتفاءِ بغالب الظن، ولولا تجويز ما ذكرناه، لتعطَّل تعديل الشهود، وتسليمُ التركات إلى الورثة، ولتخلَّد الحبس على المعسر.
ثم أهل الخبرة الباطنة فيما نحن فيه مَن عاشر الميت حضراً وسفراً، أو سراً وعلناً، وكان ممن يطلع على باطن حاله إذا نكح أو تسرى، فإذا كان كذلك حالُ الشاهد، فيبعد أن يعزب عنه وارثٌ سوى من علم. هذا ظاهر الحال.
4492- وممَّا يجب التنبيه له أن الشهود لو شهدوا على وارث، وقالوا: لا نعلم له وارثاً سواه، لم يسلم القاضي التركةَ إلى من عيّنوه، حتى يتحقق له أنهم من أهل الخبرة الباطنة. وإنما يتحقق له هذا بأن يخبروه بأننا خبرنا بواطن حاله في عمره، ولا يشترط أن يذكروا ذلك في صيغة الشهادة. ولكن لو أخبروا بها قبل إقامة الشهادة أو بعدها، كفى.
ولو اطلع القاضي على ذلك من أحوال الشهود، لا من جهتهم، ثبت الغرض بذلك.
4493- وممّا يدور في النفس من هذا أن الشهود إذا شهدوا أن هذا ابنُ الميت، لم يكن هذا بمثابة ما لو شهدوا على الإقرار من غير تعرض لذكر شرائطه، بل تثبت البنوة، ثم يبحث القاضي، فإذا لم يظهر وصفٌ حاجبٌ، ورث. وليس يبعد أن يقال: الشهادة بالبنوة تُورِّث عند ظهور الحرية والإسلام؛ فإن الصفات التي تسقط الميراث، اختلافُ الدين، والقتل، فإذا ظهرت الحرية والإسلام إذا كان المتوفى مسلماً، فلا معنى للبحث عن القتل، من غير دعوى فيه.
4494- ثم إذا شهد الشهود على وراثة شخص ونَفَوْا علمهم بوارث غيره، وهم أهل الخبرة الباطنة، فالتركة تسلم من غير طلب كفيل؛ فإن الاحتياط الممكن قد حصل بشهادة الشهود، فإن ثبت وارثاً، ولم يثبت انتفاء من سواه، ولم يُقم شهادةً من أهل الخبرة، فسبيل القاضي في مثل هذا أن يبحث عن مواضعِ نهضات المتوفَّى، وجهاتِ أسفاره، ويكتبَ إلى ثقاتٍ من تلك الجهات يخبر بموت هذا الرّجل، ويأمر بإشاعة ذلك، حتى إن كان وارثٌ ظهر، فإذا مضى زمن يغلب على الظن-مع السبيل الذي ذكرناه- ظهورُ وارثٍ لو كان، فإذا لم يظهر، نُظر: فإن كان الوارث ممن لا يُحجب حجبَ حرمانٍ، فلا خلاف أنّه يسلم إليه التركة، إذا كان عصبة.
وهل يجب طلب كفيل منه؟ في المسألة وجهان:
أحدهما: يجب للاحتياط في مظنة الإشكال.
والثاني: لا يجب، ويستحب؛ فإنّه إذا بحث، فقد قدّم الممكن في الاحتياط.
وإذا كان ذلك الشخص ممن يتصور أن يحجب حجب حرمانٍ، كالأخ، فهل يدفع القاضي إليه المالَ ولا بيّنة من أهل الخبرة، واحتاط كما رسمنا؟ في المسألة وجهان:
أحدهما: لا نسلم إليه، لإمكان وارث يحجبه، وليحرص الأخ على إقامة البينة من أهل الخبرة. والوجه الثاني- أنه يسلم المال إليه، ثم في طلب الكفيل وجهان مرتبان على الوجهين في الابن. ولا شك أن هذه الصورة أولى بطلب كفيل.
4495- ولو كان للمتوفى أصحاب فرائض، وكانوا لا يحجبون، فيعطى صاحب الفرض سهمَه عائلاً على أقصى تقديرٍ في العول، ولا وقوف في هذا؛ فإنه مستيقن، فتعطى الأم سدس المال عائلاً من عشرة، إذا كان ذلك ممكناً. والقول في الزائد عن السدس الذي يعول، أو الثلث الذي تستحقه الأم في بعض الأحوال، كالقول في التسليم إلى الأخ، مع تقدير كونه محجوباً. ثم ما نستيقنه لا نتوقف فيه ولا نطلب فيه كفيلاً. وهذا إنما يتصور في أصحاب الفرائض الذين لا يحجبون.
والعصبة، وإن كانوا لا يحجبون حجب الحرمان، فلا ضبط لأقل ما يصرف إلى الواحد، فيجري في ابتداء الأمر توقفٌ، وفي انتهائه خلافٌ في طلب الكفيل.
ولو شهد شهود من أهل الخبرة الباطنة على أن هذا هو الوارث، لا وارث للمتوفى غيره، فجزْمُهم القولَ مجازفة منهم. ولكن الشافعي نص على أنا لا نرد شهادتهم في ذلك، وتابعه الأصحابُ عليه، فإن الناس قد يطلقون هذا تعويلاً على غالب الظن عندهم، وإذا روجعوا فسروه بما ذكرناه.
وإذا قال أهل الخبرة: لا نعلم له وارثاً، كفى ذلك مع كونهم من أهل الخبرة؛ فإن عدم علمهم يغلب على الظن أن لا وارث سوى المعين.